الخميس، 23 أبريل 2020

علم الأنساب مهم جدًّا للتاريخ

إن علم الأنساب هو العلم الذي يبحث في تناسل القبائل والبطون من الشعوب وتسلسل الأبناء من الآباء والجدود، وتفرع الغصون من الأصول في الشجرة البشرية بحيث يعرف الخلف عن أي سلف انحدر، والفرع عن أي أصل صدر، وفى هذا العلم من الفوائد النظرية والعملية، بل من الضرورات الشرعية والاجتماعية والأدبية والمادية، ما لا يحصى، فليس علم الأنساب بطراز مجالس يعلمه الناس لمجرد الاستطراف أو للدلالة على سعة العلم، وإنما هو علم نظري عملي معًا. عملي لأنه ضروري لأجل إثبات المواريث التي يتوقف توفيرها لأهلها على ثبوت درجة قرابة الوارث من المورث، وهذا لا يكون إلا بمعرفة النسب.
وكذلك هو ضروري لأجل الدول الراقية المهذبة التي تريد أن تعرف أصول الشعوب التي اشتملت عليها ممالكها، والخصائص التي عرف بها كل من هذه الشعوب بما يكون أعون لها على تهذيبها وحسن إدارتها، فكما أن العالم المتمدن يعنى بتدريس جغرافية البلدان من جهة أسماء البلاد ومواقعها وحاصلاتها وعدد سكانها ومقدار جباياتها، فإنه يجب أن يُعنى بمعرفة أنساب أولئك السكان وطبائعهم وعاداتهم وميزة كل جماعة منهم، وغير ذلك من المعارف التي لا يجوز أن تخلو منها هيئة بشرية راقية، ولما كان من الحقائق العلمية الثابتة المقررة عند الأطباء والحكماء، كما هي مقررة عند الأدباء والشعراء، أن الأخلاق والميول والنزعات المختلفة تتوارث كما تتوارث الأمراض والأعراض الصحية، والدماء الجارية في العروق، فقد كان لا بد من معرفة الأنساب حتى يسعى كل فريق في إصلاح نوعه بطريق الترقية والتهذيب ضمن دائرته الدموية بحسب استعدادها الفطري، لأن الاجتهاد في تنمية القرائح الطبيعية والمواهب المدنية لا يمكن أن يثمر ثمره في قبيل إذا جاء معاكسًا لاستعداده الفطري وهذه الاستعدادات أحسن دليل عليها هو علم الأنساب...

فإذا تقرر عندنا هذا تقرر أن حفظ الأنساب هو عبارة عن حفظ الفضائل وإمتاع المجتمع بها. ومتى كثرت الفضائل في المجتمع ترقت الأمة وعرجت في سلم النجاح، وأصبحت أمة عزيزة غالبة، لأن الأخلاق الفاضلة هي الأساس الذي يُبنى عليه كيان الأمم.

وعلم الأنساب مهم جدًّا للتاريخ، مشتبك به اشتباكًا تامًّا، لأنه به يعرف تاريخ مشاهير الرجال الذين قاموا بأدوار عظيمة في العالم، فيتبين من هذا العلم أصلهم، كما يتبين من التاريخ فصلهم. وكذلك تعرف من الأنساب علاقات المصاهرة، وما يحصل بسببها من التوارث، وما ينشأ عن هذا التوارث من دعاوى وخصومات قد تجر إلى الحروب. ولم تنحصر الأنساب في الفترة الآدمية، بل للطبقة العالية من الحيوانات الداجنة أنساب معروفة، ولحفظ أنسابها فائدة عظيمة في تنشئة هذه الحيوانات وتنميتها، فإن تأثير العرق غير مشكوك فيه، وانتقال النجابة من بطن إلى بطن هذا معدود من القواعد العلمية، وإن كان قد تعرض أحيانًا عوارض تمنع انتظام سير هذا التوارث.


منقول 
ابن خلدون 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اللّٰهم إنِّك عفوٌ تُحبَ العفوَ فاعفُ عنَّا

فائدة نفيسة. لماذا خصَّ رسول اللّٰه -صلىٰ اللّٰه عليه وسلم- دعاء (اللّٰهم إنِّك عفوٌ تُحبَ العفوَ فاعفُ عنَّا) أن يردد في ليلة القدر؟. ...